الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قوله: فالخلق يتضمن الابتداء، والكرم تضمن الانتهاء، كما قال في أم القرآن: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم قال: { الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1، 2]. ولفظ الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد. لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن. والكرم كثرة الخير ويسرته. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسموا العنب الكَرْم، فإنما الكَرْم قلب المؤمن). / وهم سموا العنب [الكَرْم] ؛ لأنه أنفع الفواكه ـ يؤكل رطبًا، ويابسًا، ويعصر فيتخذ منه أنواع. وهو أعم وجودًا من النخل؛ يوجد في عامة البلاد، والنخل لا يكون إلا في البلاد الحارة؛ ولهذا قال في رزق الإنسان: فقدم العنب. وقال في صفة الجنة: ومع هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالكرم وقال: (الكَرْمُ قلب المؤمن). فإنه ليس في الدنيا أكثر ولا أعظم خيرًا من قلب المؤمن. والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم. قال تعالى: /وعن الشَّعْبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم. والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه. قال تعالى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وكرائم الأموال: التي تكرم على أصحابها لحاجتهم إليها وانتفاعهم بها من الأنعام وغيرها. وهوـ سبحانه ـ أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها. فدل على أنه الأكرم وحده، بخلاف ما لو قال: [وربك أكرم]. فإنه لا يدل على الحصر، وقوله: {الْأَكْرَمُ} يدل على الحصر. ولم يقل: [الأكرم من كذا]، بل أطلق الاسم ليبين أنه الأكرم مطلقًا غير مقيد. فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه. قال ابن عطية: ثم قال له تعالى: قلت: وقد قال بعض السلف: [لا يهدين أحدكم لله ما يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء]. أى: هو أحق من كل شيء بالإكرام، إذ كان أكرم من كل شيء. وهو ـ سبحانه ـ ذو الجلال والإكرام. فهو المستحق لأن يُجل، ولأن يُكرم. والإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحمد والمحبة. وهذا كما قيل في صفة المؤمن: إنه رزق حلاوة ومهابة. وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه). وهذا لأنه ـ سبحانه ـ له الملك وله الحمد. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبَيَّنَ أن أهل السنة يصفونه بالقدرة الإلهية، والحكمة، والرحمة. وهم الذين يعبدونه ويحمدونه، وأنه يجب أن يكون هو المستحق لأن يعبد دون ما سواه والعبادة تتضمن غاية الذل وغاية الحب. / وأن المنكرين لكونه يحب من الجهمية ومن وافقهم حقيقة قولهم: أنه لا يستحق أن يعبد، كما أن قولهم: إنه يفعل بلا حكمة ولا رحمة، يقتضي أنه لا ىحمد. فهم إنما يصفونه بالقدرة والقهر. وهذا إنما يقتضي الإجلال ـ فقط ـ لا يقتضي الإكرام، والمحبة، والحمد. وهو ـ سبحانه ـ الأكرم. قال تعالى: وفي أول ما نزل: وَصَفَ نفسه بأنه الذي خلق، وبأنه الأكرم. والجهمية ليس عندهم إلا كونه خالقًا ـ مع تقصيرهم في إثبات كونه خالقًا ـ لا يصفونه بالكرم،ولا الرحمة، ولا الحكمة. وإن أطلقوا ألفاظها فلا يعنون بها معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن، ثم يلحدون في أسمائه ويحرفون الكلم عن مواضعه. فتارة يقولون: الحكمة هي القدرة، وتارة يقولون: هي المشيئة، وتارة يقولون: هي العلم. وأن الحكمة ـ وإن تضمنت ذلك واستلزمته ـ فهي أمر زائد / على ذلك. فليس كل من كان قادرًا أو مريدًا كان حكيمًا، ولا كل من كان له علم يكون حكيمًا، حتى يكون عاملا بعلمه. قال ابن قُتَيبَة وغيره: الحكمة هي العلم والعمل به، وهي ـ أيضًا ـ: القول الصواب. فتتناول القول السديد، والعمل المستقيم الصالح. والرب ـ تعالى ـ أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. والإحكام الذي في مخلوقاته دليل على علمه. وهم مع سائر الطوائف يستدلون بالإحكام على العلم، وإنما يدل إذا كان الفاعل حكيمًا يفعل لحكمة. وهم يقولون: إنه لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل بمشيئة تخص أحد المتماثلين بلا سبب يوجب التخصيص. وهذا مناقض للحكمة، بل هذا سفه. وهو قد نزه نفسه عنه في قوله: وقد أخبر أنه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأنه / لم يخلقهما باطلًا، وأن ذلك ظن الذين كفروا. وقال: والجهمية المجْبِرة تُجَوِّزُ ذلك عليه، ولا تنزهه عن فعل، وإن كان من منكرات الأفعال. ولا تنعته بلوازم كرمه، ورحمته، وحكمته، وعدله؛ فيعلم أنه يفعل ما هو اللائق بذلك، ولا يفعل ما يضاد ذلك. بل تجوز كل مقدور أن يكون، وألا يكون، وإنما يجزم بأحدهما لأجل خبر سمعي، أو عادة مطردة، مع تناقضهم في الاستدلال بالخبر ـ أخبار الرسل وعادات الرب ـ كما بسط هذا في مواضع، مثل الكلام على معجزات الأنبياء، وعلى إرسال الرسل، والأمر والنهي، وعلى المعاد، ونحو ذلك، مما يتعلق بأفعاله وأحكامه الصادرة عن مشيئته. فإنها صادرة عن حكمته وعن رحمته، ومشيئته مستلزمة لهذا وهذا، لا يشاء إلا مشيئة متضمنة للحكمة، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها). / فهم في الحقيقة لا يقرون بأنه الأكرم. والإرادة التي يثبتونها لم يدل عليها سمع ولا عقل، فإنه لا تعرف إرادة ترجح مرادًا على مراد بلا سبب يقتضي الترجيح. ومن قال من الجهمية والمعتزلة: إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، فهو مكابر. وتمثيلهم ذلك بالجائع إذا أخذ أحد الرغيفين، والهارب إذا سلك أحد الطريقين، حجة عليهم، فإن ذلك لا يقع إلا مع رجحان أحدهما، إما لكونه أيسر في القدرة، وإما لأنه الذي خطر بباله وتصوره، أو ظن أنه أنفع، فلابد من رجحان أحدهما بنوع ما؛ إما من جهة القدرة، وإما من جهة التصور والشعور. وحينئذ، يرجح إرادته، والآخر لم يرده. فكيف يقال: إن إرادته رَجَّحَت أحدهما بلا مُرَجِّح؟ أو أنه رَجَّحَ إرادة هذا على إرادة ذاك بلا مرجح؟ وهذا ممتنع يعرف امتناعه من تصوره حق التصور. ولكن لما تكلموا في مبدأ الخلق بكلام ابتدعوه ـ خالفوا به الشرع والعقل ـ احتاجوا إلى هذه المكابرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبذلك تسلط عليهم الفلاسفة من جهة أخرى. فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا. / ومعلوم بصريح العقل أن القادر إذا لم يكن مريدًا للفعل ولا فاعلا، ثم صار مريدًا فاعلاً، فلابد من حدوث أمر اقتضى ذلك. والكلام ـ هنا ـ في مقامين: أحدهما: في جنس الفعل والقول. هل صار فاعلا متكلمًا بمشيئته بعد أن لم يكن، أو ما زال فاعلا متكلمًا بمشيئته. وهذا مبسوط في مسائل الكلام والأفعال في مسألة القرآن وحدوث العالم. والثانى: إرادة الشيء المعين وفعله، كقوله تعالى: وهو ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئًا من ذلك فللناس فيها أقوال: قيل: الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد، / ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهذا قول ابن كلاب، والأشعرى. ومن تابعهما. وكثير من العقلاء يقول: إن هذا فساده معلوم بالاضطرار، حتى قال أبو البركات: ليس في العقلاء من قال بهذا. وما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام، وبطلانه من جهات: من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئًا حدث حتى تخصص أو لا تخصص. بل تجددت نسبة عدمية ليست وجودًا،وهذا ليس بشيء، فلم يتجدد شيء. فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث، ولا مخصص. والقول الثانى: قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء، لكن يقول: تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته بتلك المشيئة القديمة، كما تقوله الكرَّامية وغيرهم. وهـؤلاء أقرب مـن حيث أثبتـوا إرادات الأفعال. ولكـن يلزمهم مـا لزم أولئك من حيث أثبتوا حـوادث بـلا سبب حـادث، وتخصيصات بـلا مُخَصِّص، وجعلـوا تلك الإرادة واحـدة تتعلق بجميـع الإرادات الحـادثـة، / وجعلـوها ـ أيضًا ـ تخصص لذاتها،ولم يجعلـوا عنـد وجـود الإرادات الحادثـة شـيئًا حـدث حتى تخصص تلك الإرادات الحـدوث. والقول الثالث: قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به. ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، أو يفسرونها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين. وكل هذه الأقوال قد علم ـ أيضًا ـ فسادها. والقول الرابع: أنه لم يزل مريدًا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته. وهو ـ سبحانه ـ يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم، والثاني قصد. وهل يجوز وصفه بالعزم؟ فيه قولان: أحدهما المنع، كقول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى. والثاني الجواز، وهو أصح. فقد قرأ جماعة من السلف: وسواء سمى [عزمًا] أو لم يسم، فهو ـ سبحانه ـ إذا قدرها، علم أنه سيفعلها في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها. فإذا جاء الوقت فلابد من إرادة الفعل المعين، ونفس الفعل، ولابد من علمه بما يفعله. ثم الكلام في علمه بما يفعله هل هو العلم المتقدم بما سيفعله؟ وعلمه بأن قد فعله هل هو الأول؟ فيه قولان معروفان. والعقل والقرآن يدل على أنه قدر زائد، كما قال: {لنعلم} في بضعة عشر موضعًا، وقال ابن عباس: إلا لنرى. وحينئذ، فإرادة المعين تترجح لعلمه بما في المعين من المعنى المرجح لإرادته. فالإرادة تتبع العلم. وكون ذلك المعين متصفًا بتلك الصفات المرجحة، إنما هو في العلم والتصور، ليس في الخارج شيء. ومن هنا غلط من قال: [المعدوم شيء]، حيث أثبتوا ذلك المراد في الخارج. ومن لم يثبته شيئًا في العلم، أو كان ليس عنده إلا إرادة / واحدة وعلم واحد، ليس للمعلومات والمرادات صورة علمية عند هؤلاء. فهؤلاء نفوا كونه شيئًا في العلم والإرادة، وأولئك أثبتوا كونه شيئًا في الخارج. وتلك الصورة العلمية الإرادية حدثت بعد أن لم تكن. وهي حادثة بمشيئته وقدرته، كما يُحدث الحوادث المنفصلة بمشيئته وقدرته. فيقدر ما يفعله، ثم يفعله. فتخصيصها بصفة دون صفة، وقدر دون قدر هو للأمور المقتضية لذلك في نفسه. فلا يريد إلا ما تقتضى نفسه إرادته بمعنى يقتضي ذلك، ولا يرجح مرادًا على مراد إلا لذلك. ولا يجوز أن يرجح شيئًا لمجرد كونه قادرًا. فإنه كان قادرًا قبل إرادته، وهو قادر على غيره. فتخصيص هذا بالإرادة لا يكون بالقدرة المشتركة بينه وبين غيره. ولا يجوز ـ أيضًا ـ أن تكون الإرادة تُخَصَّص ـ مثلًا ـ على مثل بلا مُخَصِّص، بل إنما يريد المريد أحد الشيئين دون الآخر لمعنى في المريد والمراد، لابد أن يكون المريد إلى ذلك أميل، وأن يكون في المراد ما أوجب رجحان ذلك الميل. / والقرآن والسنة تثبت القدر، وتقدير الأمور قبل أن يخلقها، وأن ذلك في كتاب، وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في هذا المكان ـ في مسائل العلم والإرادة. فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره). وقد تبرأ ابن عمر ـ وغيره من الصحابة ـ من المكذبين بالقدر. ومع هذا، فطائفة من أهل الكلام ـ وغيرهم ـ لا تثبت القدر إلا علمًا أزليًا وإرادة أزلية فقط. وإذا أثبتوا الكتابة قالوا: إنها كتابة لبعض ذاك. وأمـا مـن يقـول: إنه قـدرهـا حينئذ، كما في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فقد بُسِطَ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. / وهو كقوله: والكتاب ـ في نفسه ـ لا يكون أزليًا. وفي حديث رواه حماد بن سلمة، عن الأشعث ابن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث الصنعانى، عن شداد بن أوس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي سنة أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة)، رواه الترمذي، وقال: غريب. وهو ـ سبحانه ـ أنزل القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وكثير من الكتب المصنفة في أصول الدين والكلام، يوجد فيها الأقوال المبتدعة دون القول الذي جاء به الكتاب والسنة. فالشهرستاني [هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد، الشهرستاني من فلاسفة الإسلام كان إمامًا في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، يلقب بالأفضل، ولد في شهرستان عام 479، وانتقل إلى بغداد عام 510هـ، فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده فتوفي بها عام 548هـ، من كتبه [الملل والنحل]، و[نهاية الإقدام في علم الكلام] وغيرهما] ـ مع تصنيفه في الملل والنحل ـ يذكر في مسألة الكلام / والإرادة وغيرهما أقوالًا ليس فيها القول الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان بعضها أقرب. وقَبْلـه أبو الحسـن كتابـه في اختلاف المصلين من أجمع الكتب، وقد استقصي فيه أقاويـل أهـل البـدع. ولما ذكر قول أهل السنة والحديث ذكره مجملًا، غير مفصل. وتصرف في بعضه، فذكره بما اعتقده هو أنه قولهم من غير أن يكون ذلك منقولًا عن أحد منهم. وأقرب الأقوال إليه قول ابن كُلاَّب. فأمـا ابن كـلاب، فقـوله مشـوب بقـول الجهميـة، وهـو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية،وكذلك مذهب الأشعرى في الصفات وأما في القدر والإيمان فقوله قول جهم. وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، فهو أقرب ما ذكره. وبعضه ذكره عنهم على وجهه، وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر، إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول. وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث وموافقتهم فأراد أن / يجمع بين ما رآه من رأى أولئك، وبين ما نقله عن هؤلاء؛ ولهذا يقول فيه طائفة: إنه خرج من التصريح إلى التمويه. كما يقوله طائفة: إنهم الجهمية الإناث، وأولئك الجهمية الذكور. وأتباعه الذين عرفوا رأيه في تلك الأصول، ووافقوه أظهروا من مخالفة أهل السنة والحديث ما هو لازم لقولهم، ولم يهابوا أهل السنة والحديث ويعظموا ويعتقدوا صحة مذاهبهم كما كان هو يرى ذلك. والطائفتان ـ أهل السنة والجهمية ـ يقولون: إنه تناقض، لكن السنى يحمد موافقته لأهل الحديث ويذم موافقته للجهمية، والجهمى يذم موافقته لأهل الحديث ويحمد موافقته للجهمية. ولهذا كان متأخرو أصحابه ـ كأبي المعالى ونحوه ـ أظهر تجهمًا وتعطيلًا من متقدميهم. وهي مواضع دقيقة، يغفر الله لمن أخطأ فيها بعد اجتهاده. لكن الصـواب مـا أخبر به الرسـول، فلا يكون الحق في خلاف ذلك ـ قط ـ والله أعلم. ومن أعظم الأصول التي دل عليها القرآن في مواضع كثيرة جدًا، وكذلك الأحاديث، وسائر كتب الله، وكلام السلف، وعليها تدل / المعقولات الصريحة، هو إثبات الصفات الاختيارية، مثل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، وكذلك يقوم بذاته فِعْلُه الذي يفعله بمشيئته. فإثبات هذا الأصل يمنع ضلال الطوائف الذين كذبوا به، والقرآن والحديث مملوء، وكلام السلف والأئمة مملوء من إثباته. فالحق المحض؛ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يكون الحق في خلاف ذلك. لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره. فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم، وتارة من سوء القصد. والناس يختلفون في العلم والإرادة ـ في تعدد ذلك وإيجاده. ومعلوم أن ما يقوم بالنفس من إرادة الأمور، لا يمكن أن يقال فيه. العلم بهذا هو العلم بهذا، ولا إرادة هذا هو إرادة هذا. فإن هذا مكابرة وعناد. وليس تمييز العلم عن العلم، والإرادة عن الإرادة، تمييزًا مع انفصال أحدهما عن الآخر. بل نفس الصفات المتنوعة ـ كالعلم /، والقدرة، والإرادة ـ إذا قامت بمحل واحد لم ينفصل بعضها عن بعض، بل محل هذا هو محل هذا، كالطعم واللون والرائحة القائمة بالأَتْرُجَّة الواحدة وأمثالها من الفاكهة وغيرها. فإذا قيل:[هي علوم وإرادات]، لم ينفصل هذا عن هذا بفصل حسي، بل هو نوع واحد قائم بالنفس. وإذا علم هذا بعد علمه بذلك فقد زاد هذا النوع وكثر ـ وإن شئت قلت: عظم. فلا يزيد فيه زيادة الكمية عن زيادة الكيفية. بل يقال: [علم كثير، وعلم عظيم] بأن تكون العظمة ترجع إلى قوته وشرف معلومه، ونحـو ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: [أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟] قال: وكتب سلمان إلى أبي الدرداء: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك وَيْعْظُم حلمك. وانضمام العلم إلى العلم، والإرادة إلى الإرادة، والقدرة إلى القدرة، هو شبيه بانضمام الأجسام المتصلة، كالماء إذا زيد فيه ماء، فإنه يكثر قدره. لكن هو كم متصل لا منفصل، بخلاف الدراهم. / فإذا قيل: [تعددت العلوم والإرادات] فهو إخبار عن كثرة قدرها وأنها أكثر وأعظم مما كانت، لا أن هناك معدودات منفصلة كما قد يفهم بعض الناس. ولهذا كان العلم اسم جنس. فلا يكاد يجمع في القرآن، بل يقال: والعلم يشبه بالماء، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا..... الحديث). وقد قال: ومـاخلقه الرب تعالى فإنه يراه، ويسمع أصوات عباده. والمعدوم لا يرى باتفاق العقلاء. والسالمية ـ كأبي طالب المكي وغيره ـ لم يقولوا: إنه يرى قائمًا بنفسه، وإنما قالوا: يراه الرب في نفسه ـ وإن كان هـو معدومًا في ذات الشيء المعدوم. فهم يجعلون الرؤية لما يقوم بنفس العالم من صورته العلمية / ما هو عدم محض. وهم ـ وإن كانوا غلطوا في بعض ما قالوه فلم يقولوا: إن العدم المحض الذي ليس بشيء يرى ـ فإن هذا لا يقوله عاقل. وفي الحقيقة إذا رؤى شيء فإنما رؤى مثاله العلمى، لا عينه. وأبو الشيخ الأصبهانى لما ذكرت هذا المسألة أَمَرَ بالإمساك عنها. فقبل أن يوجد لم يكن يرى، وبعد أن يعدم لا يرى، وإنما يرى حال وجوده. وهذا هو الكمال في الرؤية. وكذلك سمع أصوات العباد هو عند وجودها، لا بعد فنائها، ولا قبل حدوثها. قال تعالى:
الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله ـ تعالى ـ هدى ورحمة للعالمين. فإنه كما أرسله بالعلم والهدى، والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم / واحتماله. فبعثه بالعلم، والكرم، والحلم، عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح. قال تعالى: وقال: وهذا نعت الرسل كلهم، كل يقول: وهذه سبيل من اتبعه، كما قال: / وأما المخالفون لهم، فقد قال عن المنتسبين إليهم مع بدعة: وهو ـ سبحانه ـ قال: وقد قال في وصف الرسول: فوصفه بأنه يقول الحق فلا يكذب، ولا يكتم. وقد وصف أهل الكتاب بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، وأنهم يشترون به ثمنًا قليلًا. / ومع هذا وهذا قد أمده بالصبر على أذاهم، وجعله كذلك يعطيهم ما هم محتاجون إليه غاية الحاجة ـ بلا عوض، وهم يكرهونه ويؤذونه عليه. وهـذا أعظم مـن الذي يبذل الدواء النافـع للمرضي، ويسقيهم إيـاه بـلا عـوض ـ وهـم يؤذونه ـ كما يصنع الأب الشفيق. وهو أب المؤمنين. وكـذلك نعت أمـته بقـوله: الحمـد لله الذي جعـل ـ في كل زمان فَتْرَة من الرسل ـ بقايا من أهل العلم يدعون مـن ضـل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون ـ بكتاب الله ـ الموتى، ويُبَصِّرون ـ بنـور الله ـ أهـل العمى. فكم مـن قتيـل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قـد هـدوه! فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم!. إلى آخر كلامه. فهـذا هـذا، والحمد لله حمـدًا كثـيرًا طيبًا مباركًا فيـه. وهـو ـ سبحانـه ـ يجـزي الناس بأعمالهم، والله في عون العبـد مـا كـان العبـد في عـون أخيه / فهو ينعم على الرسول بإنعامـه جزاء على إحسانهم، والجميـع منـه. فهـو الرحمن الرحيم، الجواد الكريم، الحنان المنان، له النعمـة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. وهـو ـ سبحانـه ـ يحب معالى الأخـلاق، ويكـره سفسافها. وهـو يحب البصر النافـذ عنـد ورود الشبهات، ويحب العقـل الكامل عند حلول الشهوات. وقد قيل ـ أيضًا ـ: وقـد يحب الشجاعـة ولو على قتـل الحيات، ويحب السماحـة ولو بكـف مـن تمـرات. والقرآن أخبر أنه يحب المحسنين، ويحب الصابرين. وهذا هو الكرم والشجاعة.
وقوله: {الْأَكْرَمُ}، يقتضي اتصافه بالكرم في نفسه، وأنه الأكرم وأنه محسن إلى عباده. فهو مستحق للحمد لمحاسنه وإحسانه. وقـوله: ذكر الخَطَّأبي الاحتمالات الثلاثة، ونقل ابن الجوزي كلامه فقال: قال أبو سليمان الخطابي: الجلال مصدر الجليل، يقال: جليل بين الجلالة والجلال. والإكرام مصدر أكرم، يكرم، إكرامًا. والمعنى: أنه يكرم أهل ولايته وطاعته، وأن الله يستحق أن يُجَلَّ ويكرم، ولا يجحد ولا يكفر به، قال: ويحتمل أن يكون المعنى: يَكْرِم أهل ولايته ويرفع درجاتهم. قلت: وهذا الذي ذكره البغوى فقال:{ذُو الْجَلَالِ}: العظمة والكبرياء {وَالْإِكْرَامِ}: يكرم أنبياءه وأولياءه بلطفه ـ مع جلاله وعظمته. قال الخطَّابي: وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين ـ وهو الجلال ـ مضافًا إلى الله بمعنى الصفة له، والآخر مضافًا إلى العبد بمعنى الفعل، كقوله تعالى: قلت: القول الأول هو أقربها إلى المراد، مع أن الجلال ـ هنا ـ / ليس مصدر جل جلالا، بل هو اسم مصدر أجل إجلالًا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالى فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذى السلطان المقسط). فجعل إكرام هؤلاء من جلال الله، أى: من إجلال الله، كما قال: والجلال قُرِن بالإكرام، وهو مصدر المتعدى، فكذلك الإكرام. ومن كلام السلف: أَجِلُّوا الله أن تقولوا كذا. وفي حديث موسى: يا رب، إني أكون على الحال التي أجلك أن أذكرك عليها. قال: (اذكرني على كل حال). وإذا كان مستحقًا للإجلال والإكرام لزم أن يكون متصفًا في نفسه بما يوجب ذلك،كما إذا قال: الإله هـو المستحق لأن يُؤْلَه،أى: يعبد، كان هو في نفسه مستحقًا لما يوجب ذلك. وإذا قيل: ومنـه قـول النبي صلى الله عليه وسلم ـ إذا رفـع رأسـه مـن الركوع بعـد / ما يقول: (ربنا ولك الحمد): (ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد). أي: هو مستحق لأن يثنى عليه وتمجد نفسه. والعباد لا يحصـون ثناء علـيه، وهـو كما أثنى على نفسـه، كذلك هـو أهل أن يجل وأن يكـرم. وهـو ـ سبحانه ـ يجل نفسه ويكرم نفسه، والعباد لا يحصون إجلاله وإكرامه. والإجلال من جنس التعظيم، والإكرام من جنس الحب والحمد وهذا كقوله: والصلاة مبناها على التسبيح في الركوع والسجود، والتحميد والتوحيد في القيام والقعود، والتكبير في الانتقالات، كما قال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سَبَّحنَا، فوضعت الصلاة على ذلك. رواه أبو داود. وفي الركوع يقول: (سبحان ربي العظيم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنى نُهِيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا. أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم). وإذا رفع رأسه حمد فقال: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد). فيحمده في هذا القيام، كما يحمده في القيام الأول إذا قرأ أم القرآن. فالتحميد والتوحيد مقدم على مجرد التعظيم؛ ولهذا اشتملت الفاتحة على هذا؛ أولها تحميد،وأوسطها تمجيد،ثم في الركوع تعظيم الرب،وفي القيام يحمده،ويثنى عليه، ويمجده. فدل على أن التعظيم المجرد، تابع لكونه محمودًا وكونه معبودًا. فإنه يحب أن يُحْمَد ويُعْبَد، ولابد ـ مع ذلك ـ من التعظيم، فإن التعظيم لازم لذلك. وأما التعظيم، فقد يتجرد عن الحمد والعبادة على أصل الجهمية. فليس ذلك بمأمور به، ولا يصير العبد به لا مؤمنًا، ولا عابدًا، ولا مطيعًا. وأبو عبد الله بن الخطيب الرازى يجعل الجلال للصفات السلبية، والإكرام للصفات الثبوتية، فيسمى هذه [صفات الجلال]، وهذه [صفات الإكرام]. وهذا اصطلاح له، وليس المراد هذا في قوله: / وهو في مصحف أهل الشام: [تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام]. وهي قراءة ابن عامر، فالاسم نفسه يذوى بالجلال والإكرام. وفي سائر المصاحف ـ وفي قراءة الجمهور: {ذي الجلال}، فيكون المسمى نفسه. وفي الأولى: وهذا يبين أن المراد: أنه يستحق أن يُجل ويُكرم. فـإن الاسم نفسـه يسـبح ويذكر ويـراد بذلك المسمـى.والاسـم نفسـه لا يفعـل شـيئًا، لا إكرامـًا ولا غـيره؛ ولهـذا ليس في القـرآن إضافـة شيء مـن الأفعـال والنعـم إلى الاسـم. ولكن يقال: فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: (سبحان اسم ربي الأعلى). لكن قوله: (سبحان ربي الأعلى)، هو تسبيح لاسمه يراد به تسبيح المسمى، لا يراد به تسبيح مجرد الاسم، كقوله: وهذا هو الذي أراده من قال من أهل السنة:إن الاسم هو المسمى. أرادوا به أن الاسم إذا دعي وذكر يراد به المسمى.فإذا قال المصلى:[الله أكبر]، فقد ذكر اسم ربه،ومراده المسمى. لم يريدوا به أن نفس اللفظ هو الذات الموجودة في الخارج.فإن فساد هذا لا يخفي على من تصوره،ولو كان كذلك كان من قال: [نارًا]، احترق لسانه. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود أن الجلال والإكرام مثل الملك والحمد، كالمحبة والتعظيم، وهذا يكون في الصفات الثبوتية والسلبية. فإن كل سلب فهو متضمن / للثبوت. وأما السلب المحض فلا مدح فيه. وهذا مما يظهر به فساد قول من جعل أحدهما للسلب والآخر للإثبات، لا سيما إذا كان من الجهمية الذين ينكرون محبته، ولا يثبتون له صفات توجب المحبة والحمد، بل إنما يثبتون ما يوجب القهر، كالقدرة. فهؤلاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وألحدوا في أسمائه وآياته بقدر ما كذبوا به من الحق، كما بسط هذا في غير هذا الموضع.
|